المادة    
وإذا عرفنا المعنى الحق فإنه يبنى عليه: أن الإنسان ينبغي أن يجتهد في التقرب إلى الله؛ حتى يصل إلى هذه الحالة.
يقول الحافظ ابن رجب: (ومن هنا كان بعض السلف كـسليمان التيمي رحمه الله يرون إنه لا يحسن أن يعصى الله) أي: لا يليق بأي حال من الأحوال أن يعصى الله عز وجل، وذلك استشعاراً منهم لهذه المعاني، (ووصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم: تعودوا حب الله وطاعته؛ فإن المتقين ألفوا الطاعة، فاستوحشت جوارحهم من غيرها)، فالأذن تستوحش إذا سمعت غناءً، والعين تستوحش إذا رأت حراماً، واليد تستوحش إذا وقعت على شيء مما لم يحله الله، والرجل تستوحش أن تمشي إلى ما حرم الله.
تقول: (فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة؛ فهم لها منكرون)، أي: تعودوا الطاعة، فلا يليق بهم أن يعصوا، وتعودوا الطاعة حتى أصبحت جوارحهم منفعلة بها، فإذا مر الملعون أو عرض بالمعصية فإنها تمر وهم لها منكرون، فلا يستجيبون لها، وإنما هي خواطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )، فلا بد أن يوسوس، لكن هذه الوساوس تكون خواطر، فيدفعها الإنسان. ‏
  1. حال أهل الشهوات وتلبيس إبليس عليهم

    وأما أصحاب الشهوات -نعوذ بالله- فإنهم يصبحون عبيداً للشيطان، كما قال الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ))[يس:60] فيعبدونه العبودية المطلقة، فلا يأمرهم بشيء إلا ويطيعونه، فيتحكم فيهم، ولهذا يستخدم ويسخر جوارحهم: عيونهم، وأسماعهم، وأيديهم، وأرجلهم في معصية الله، فيكدحون ويشتغلون ليلاً ونهاراً في المعاصي، ولا يملون ولا يتعبون، فإذا عرضت على أحدهم الطاعة تخاذل وتكاسل وتثاءب، ونفر منها ولم يرتح لها، ولا يطمئن إلا إذا جاءته المعصية والعياذ بالله؛ لأن الشيطان متحكم فيه.
  2. هيبة الشيطان من عمر

    يقول: (ومن هذا المعنى: قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [إن كنا نرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة] )، وعمر رضي الله تعالى هو محدث هذه الأمة، الذي: ( إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر )، وهذا معنى: كنت سمعه وبصره، فجوارحه كلها تنفعل وتفعل الطاعة، وليس للخطيئة عنده موضع، ولا للشيطان فيه منفذ يستطيع أن يصل به إليه، فلا يجرؤ شيطان عمر على أن يوسوس إليه ولو بشيء بسيط؛ لقوته في طاعة الله، فقد أصبح سمعه وبصره وقلبه وعقله وجوارحه كلها قوية على طاعة الله، وعلى تقوى الله سبحانه وتعالى، وما يقربه إلى الله.
    فـعمر له شيطان، ولكل إنسان منا قرين، لكن شيطان عمر رضي الله تعالى يهاب أن يأمره بشر كما يقول علي رضي الله عنه، وهذا من شهادة الأخيار بعضهم لبعض، فكانوا يتحدثون أن شيطان عمر لا يقدر أن يوسوس أو يحرك عمر إلى معصية من معاصي الله عز وجل.
  3. محبة الله والخضوع والذل له

    يقول الحافظ ابن رجب: (وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص، فإن معنى لا إله إلا الله: لا يؤلِّه غيره حباً ورجاء وخوفاً وطاعة) أي: كما شرحها وفسرها الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله، فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله.
    وهذا كلام عظيم، وقد عرضنا له في موضوع المحبة، وقلنا: إن الإله من التأله، أو من الوله، وهو: أعلى درجات المحبة، وكذلك التعبد، فالعبودية أعلى درجات المحبة، فهي ذل وخضوع مع محبة، فالمحبة إذا تجردت عن الذل والخضوع -كما لو كان ذلك بالإكراه- فليست عبادة، ففرعون مثلاً أخضع المؤمنين في عصره كامرأته وغيرها وأكرههم وأذلهم، وكذلك كفار قريش كانوا يخضعون بلالاً وعماراً إلى أشد الدرجات، فهذا لا يضر إذا كان هو في نفسه يحب الله ورسوله، فمن أكره وأرغم بشيء فإنه لا يقال: إنه عبْد له، لكن من أحبه وتعلق به حتى أذل نفسه وأخضعها له قيل عنه: فلان يعبد فلاناً، أو يعبد فلانة، أو يعبد الوظيفة، ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار )، فهو مستعد لأن يخضع نفسه ويذلها من أجل الدرهم، أو الدينار، أو الوظيفة، أو فلان، أو فلانة، فهنا يقال تيم الله، ومعناها: عبد الله من التتيم وهو المحبة، وهذا معنى جيد، فالكلام كله في محبة الله، وليس المراد أن الإنسان يمتثل بجوارحه بعض العبادات وقلبه غير محب لله، ولا محب لطاعة الله عز وجل.
    فيقول: (وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله تعالى وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب، فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات، وارتكاب بعض المحظورات، فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هم إلا في الله، وفيما يرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعاً ( من أصبح وهمه غير الله فليس من الله )، قال بعض العارفين: من أخبرك أن وليه له هَمّ في غيره فلا تصدقه، فإن كان من أولياء الله فإن كل همه يكون هو الله، وما يرضي الله عز وجل.
    وكان داود الطائي ينادي في الليل: همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، وفي هذا المعنى قال بعضهم:
    قالوا تشاغل عنا واصطفى بدلاً             منا وذلك فعل الخائن السالي
    وكيف أشغل قلبي عن محبتكم            بغير ذكركم يا كل أشغالي )
  4. عطاء الله لأولياءه

    قال: (قوله: ( ولئن سألني لأعطينه ولئن أستعاذني لأعيذنه )، وفي الرواية الأخرى: ( إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته )، يعني هذا: أن المحبوب المقرب إلى الله له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئاً أعطاه إياه، وإذا استعاذ به من شيء أعاذه منه، وإن دعاه أجابه) وهذا غاية ما يريد الإنسان، وهل هناك هدف أو غاية أكبر من أنك أنت العبد الفقير الضعيف المحتاج بتقربك إلى الله، وبطاعتك له، وحبك له؛ تصبح عند الله تعالى بهذه المنزلة: إن سألته أعطاك، وإن استعذت به أعاذك، وإن دعوته أجابك، فهذه درجة عظيمة، فمن يستطيع أن يصل إليها! من يطمح إلى شيء غيرها! فتسأله الجنة، وتسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم، وتسأله الثبات على الحق، وتسأله النصر على أعدائك، وتسأله أي شيء؛ فيستجيب لك، وتستعيذ به مما تكره: من شر الشيطان، ومن كيد أولياء الشيطان، ومن شرور الدنيا والآخرة؛ فيستجيب لك، فهذه درجة عظيمة جداً.
    ولو تأملنا الحديث السابق نجد أن الله تعالى لم يقل: فإذا أحبني كنت سمعه، أي: إذا كان العبد يحب الله، فإذا أحب الله كان سمعه، وبصره، وكانت أعضاؤه تسير على مقتضى محبته لله، ليس الأمر كذلك، وإنما قال: ( فإذا أحببته كنت سمعه ) أي: أن الله عز وجل إذا أحب العبد فإنه يكون بهذه المنزلة، ولذلك إذا دعاني أجيبه، وإذا استعاذ بي أعيذه؛ لأنه هو الذي أحبني حتى وصلت محبته إلى هذه الدرجة، وهذه المرتبة.
    يقول: (فيصير مجاب الدعوة؛ لكرامته على الله عز وجل) أي: أن غاية الأولياء أن يصبح الواحد منهم مجاب الدعوة؛ كما كان الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فهذا دليل على أنه من خلص أولياء الله المتقربين إليه عز وجل، وكثير من السلف ثبت لهم ذلك.
  5. صور من بعض مجابي الدعاء من السلف

    يقول: (وقد كان كثير من السلف الصالح معروفاً بإجابة الدعوة، ففي الصحيح: ( أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش فأبوا -وهي دية العضو- فطلبوا منهم العفو فأبوا، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيع ؟! والذي بعثك بالحق! لا تكسر ثنيتها ) )، فحلف أنها لا تكسر، وهذا حكم الله ( ( فرضي القوم وأخذوا الأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) ، وهو لم يحلف اعتراضاً على حكم الله، ولكنه حلف أن هذا لا يكون ولا يصير، فبر الله تعالى يمينه.
    قال: (وفي صحيح الحاكم -يعني: المستدرك - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك ) )، فلما كان البراء في معركة وزحفوا على المشركين؛ قال المسلمون: يا براء ! أقسم على ربك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك لو أقسمت على الله لأبرك )، قال: أقسمت عليك يا ربي! لما منحتنا أكتافهم، فمنحهم الله تعالى أكتافهم، فقتلوهم وأبادوهم وغلبوهم.
    ثم التقى المسلمون مع الفرس مرة أخرى في فتح تستر ، فقالوا له: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا ربي! لما منحتنا أكتافهم، ثم قال: وألحقني بنبيك صلى الله عليه وسلم، فمُنحوا أكتافهم، واستشهد البراء رضي الله تعالى عنه، فهؤلاء هم المقربون الخلص، فانتصر المسلمون، واستشهد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
    والقصص في هذا كثيرة تستحق أن تفرد وحدها، وإنما أشرنا إلى شيء منها إشارة.
  6. اشتراط الولاية للإجابة الدائمة للدعاء

    وهنا مسألة: وهي: هل معنى قوله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن أستعاذني لأعيذنه ) أن من كان ولياً لله عز وجل فلا بد أن يستجاب له دعاءه كما طلب، وأن يكون حالاً؟
    والجواب: أن ليس ذلك شرطاً؛ لحكم يعملها الله سبحانه وتعالى، وقد أشار الحافظ رحمه الله إلى هذا إشارة لطيفة خفيفة، وقال: قد تقدم في أول كتاب الدعوات: أن الحال لا يخرج عن ثلاثة أمور: إما أن يستجيب الله لوليه كما طلب ولو ناجزاً، وهذا فضل من الله.
    الأمر الثاني: أن يدخره له في الآخرة، والأمر الثالث: أن يدفع عنه من البلاء بقدر ذلك.
    وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الأمام أحمد في هذا الشأن، فيكون الولي مستجاب الدعوة، ويحبه الله تبارك وتعالى، ويكرمه، ويرضيه، ولا يخيبه أبداً، لكن ليس شرط ذلك أن يعطيه كما ظن أو كما دعا؛ لأنه تبارك وتعالى أعلم بمصلحة العبد المؤمن من نفسه، فمهما كان العبد من عباد الله الصالحين المؤمنين الأتقياء، ويرى المصلحة له أو لدينه في شيء، ويظن أن هذا أنفع له في دينه ودنياه، لكن الله تعالى أعلم بما يصلح ولا شك، وهو تعالى لمحبته لهذا الولي العبد هو أحرص على ما ينفعه من حرصه لنفسه، لهذا فالله عز وجل لا يستجيب له فيما طلب، ولكنه لا يضيعه، وإنما يعطيه أمراً آخراً، أو يصرف عنه شراً عظيماً لم يكن يعلم أنه واقع، والمهم أنه غير خائب.
    وكيف يخيب الولي إذا دعا والله تعالى لا يخيب أحداً دعاه أصلاً؟
    فإذا تحققت شروط الدعاء في أحد فإنه لا يخيب أبداً ولو لم يكن من الأولياء الصالحين، فكيف بالولي الصالح؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع عبده إليه يديه بالدعاء أن يردهما صفراً ) يعني: خاليتين، فذلك لا يمكن أبداً.
    ولو تأمل العبد ذلك لوجده من المعاني اللائقة بالله تبارك وتعالى حقاً، وهو بها أولى؛ فإن الكريم من أهل الدنيا -وهم كلهم فقراء إلى الله- لا يمكن أن يردك مطلقاً أبداً، فكيف بالله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى، فمقتضى ذلك أن يدعو الله عز وجل دائماً، وأن يكثر من هذا، (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ))[غافر:60].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.